كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومفعول {ادْفَع} محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعًا بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير: ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} في سورة الرعد (22) وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} في سورة المؤمنين (96).
و{التي هي أحسن} هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيبًا في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك.
وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح».
وقد قيل: إن ذلك وصفه في التوراة.
وفرع على هذا الأمر قوله: {فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عداوة كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ} لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضًا على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدرًا للإحسان.
ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها.
وأَمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه.
ولذكر المُثُل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.
وإذا للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقًا.
وعدل عن ذكر العَدوّ معرفًا بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونِها، كما أن ظرف {بَيْنَك وبَيْنَه} يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طُرُوَّها.
وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإِحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمحِسِن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفًا، وتمكنًا وبعدًا، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قويًا بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها.
ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
والتشبيه في قوله: {كأنَّه وليُّ حَميمٌ}، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوتُ الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإِحسان وتفاوت قوة العداوة قبلَ الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليًّا حميمًا، فإنْ صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإِسراع الذي آذنتْ به إذا الفجائية.
والعداوةُ التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعدَ الكفر فزالت عداوتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يومًا للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا، أي وستزيدِين حبًا.
وعن مقاتل: أنه قال: هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدوًا للنبيء صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه وليًا مصافيًا.
وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإِحسان.
والولي: اسم مشتق من الوَلاية بفتح الواو، والولاء، وهو: الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن.
والحميم: القريب والصديق.
ووجه الجمع بين {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أنه جمَع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} عطف على جملة {ادفع بالتي هي أحسن} [فصلت: 34]، أو حال من {التي هي أحسن}، وضمير {يُلَقَّاهَآ} عائد إلى {التي هي أحسن} باعتبار تعلقها بفعل {ادْفَعْ} أي بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا.
وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن، وحسبك قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 2، 3].
فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام.
و{يُلقَّاها} يُجعل لاَقِيًا لها، أي كقوله تعالى: {ولقاهم نضرة وسرورًا} [الإنسان: 11]، وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه.
وجيء في {يلقاها} بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل، وجيء في الصلة وهي {الَّذِينَ صَبَرُوا} بالماضي للدلالة على أن الصبر خلُق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال: إلا الصابرون، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة.
ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تَحْصُل إلا لِذي حظ عظيم.
والحظ: النصيب من الشيء مطلقًا، وقيل: خاص بالنصيب من خير، والمراد هنا: نصيب الخير، بالقرينة أو بدلالة الوضع، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى.
فتحصَّل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن، وأنه ليس وحده شرطًا فيها بل وراءه شروط أُخر يجمعها قوله: {حَظٍ عظيم}، أي من الأخلاق الفاضلة، والصبرُ من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعمّ من الصبر، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودُها.
وفي إعادة فعل {ومَا يُلقاها} دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستِتر من صريحه شيء تحتَ العاطف.
وأفاد {ذُو حَظّ عَظِيمٍ} أن الحظ العظيم من الخير سجيتُه وملكته كما اقتضته إضافة {ذو}.
وحاصل ما أشار إليه الجملتان أنّ مِثْلَك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهيّن لكل أحد.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} عطف على جملة {وما يلقاها إلا الذين صبروا} [فصلت: 35]، فبعد أن أُرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن، وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله: {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34] صُرِف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان، فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تَصْرِفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزغ من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذه لأنه أمره بذلك، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم.
وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات.
وهذا سر من الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وربه وقد أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنه لَيُغانَ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» فبذلك تسلم نفسه من أن يغشَاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين.
وفي الحديث القدسي عند الترمذي «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحِبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأُعطينَّه ولئن استعاذني لأعِيذَنَّه».
ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمة الملَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان».
والنزغ: النخس، وحقيقته: مسّ شديد للجِلد بِطرَف عُود أو إصبَع، فهو مصدر، وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير، وتقدم في قوله تعالى: {وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ باللَّه إنه سميع عليم} في سورة الأعراف (200) وإسناد {يَنزَغَنَّكَ} إلى {نَزْغٌ} مجاز عقلي من باب: جدّ جدّه، و{مِن} ابتدائية.
ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا: النازغ، وهو الشيطان، وصف بالمصدر للمبالغة، و{من} بيانية، أي ينزغنّك النازغ الذي هو الشيطان.
والمبالغة حاصلة على التقديرين مع اختلاف جهتها.
وجيء في هذا الشرط ب إنْ التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط ترفيعًا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فإن نزغ الشيطان له إنما يفرض كما يفرض المُحال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201] فجاء في ذلك الشرط بحرف إذا التي الأصل فيها الجزم بوقوع الشرط أو بغلبة وقوعه.
وما زائدة بعد حرف الشرط لتوكيد الربط بين الشرط وجوابه وليست لتحقيق حصول الشرط فإنها تزاد كثيرًا بعد إن دون أن تكون دالة على الجزم بوقوع فعل الشرط.
وضمير الفصل في قوله: {إنَّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} لتقوية الحكم وهو هنا حكم كِنائي لأن المقصود لازمُ وصف السميع العليم وهو مؤاخذة من تصدر منهم أقوال وأعمال في أذى النبي صلى الله عليه وسلم والكيدِ له ممن أُمِر بأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن.
والمعنى: فإن سوّل لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة وزين لك الانتقام وقال لك: كيف تحسن إلى أعداء الدين، وفي الانتقام منهم قطعُ كيدهم للدين، فلا تأخذ بنزغه وخذ بما أمرناك واستعذ بالله من أن يزلّك الشيطان فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك وهو يتولى جزاءهم.
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} عطف على جملة {قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} [فصلت: 9] الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالًا في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات، فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله: {ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة} [فصلت: 39].
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} إلى قوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} [فصلت: 13 34] إلى أسلوب خطابهم رجوعًا إلى خطابهم الذي في قوله: {أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} [فصلت: 9].
والآيات: الدلائل، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده.
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى، فلا جرم كانت دليلًا على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية.
وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة (164) {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار}.
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفًا في قوله: {فقضاهن سبع سموات} [فصلت: 12]، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحًا للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله: {فقضاهن سَبْعَ سموات} توفيرًا للمعاني.
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام (76) في قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي} الآيات، ثم ظهر هذا الدين في سبأ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل.
ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا: لعل ناسًا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر. اهـ.
ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب.
وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه شَمس وبه سموا عبدَ شمس، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة، قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة:
تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْرًا ** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا

وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ.
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر.
وفي تلخيص التفسير للكواشي: وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر.
وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم: صَبَأَ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابىء، فإذا لم يكن النهي في قوله: {لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ} نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما.
ووقوع قوله: {واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ} بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ** وليست على غير الظبات تسيل

فكأنه قيل: لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر.
فجملة {لا تَسْجدوا للشَّمس} إلى قوله: {تَعْبُدُونَ} معترضة بين جملة {وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ}، وبين جملة {فَإنْ استَكْبَرُوا} [فصلت: 38].
وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب: السجود عند قوله تعالى: {إن كنتم إيَّاهُ تعبدون} وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود، وروي عن الشافعي.
وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب: هي عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأمُونَ} [فصلت: 38]، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب.
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} الفاء للتفريع على نهيهم عن السجود للشمس والقمر وأمرِهم بالسجود لله وحده، أي فإن استكبروا أن يتبعوك وصمموا على السجود للشمس والقمر، أو فإن استكبروا عن الاعتراف بدلالة الليل والنهار والشمس والقمر على تفرد الله بالإِلهية فيعم ضمير {اسْتَكْبَرُوا} جميع المشركين فالله غني عن عبادتهم إياه.
والاستكبار: قوة التكبر، فالسين والتاء للمبالغة وأصل السين والتاء المستعملين للمبالغة هما السين والتاء للحسبان، أي عدوا أنفسهم ذوي كبر شديد من فرط تكبرهم.
وجملة: {فالذِينَ عِندَ رَبِّكَ} دليل جواب الشرط.
والتقدير: فإن تكبروا عن السجود لله فهو غني عن سجودهم، لأن له عبيدًا أفضل منهم لا يفترون عن التسبيح له بإقبال دون سآمة.
والمراد بالتسبيح: كل ما يدل على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق به، أو نفي ما لا يليق، وذلك بالأقوال قال تعالى: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم} [الشورى: 5]، أو بالأعمال قال: {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} [النحل: 49 50] وذلك ما يقتضيه قوله: {وهم لا يسأمون} من كون ذلك التسبيح قولًا وعملًا وليس مجرد اعتقاد.
والعِندية في قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} عندية تشريف وكرامة كقوله في سورة الأعراف (206) {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وهؤلاء الملائكة هم العامرون للعوالم العليا التي جعلها الله مشرفة بأنها لا يقع فيها إلا الفضيلة فكانت بذلك أشد اختصاصًا به تعالى من أماكنَ غيرها قصدًا لتشريفها.
والسآمة: الضجر والملل من الإِعياء.
وذكر الليل والنهار هنا لقصد استيعاب الزمان، أي يسبحون له الزمان كله.
وجملة: {وَهُمْ لا يَسْأَمُون} في موضع الحال وهو أوقع من محمل العطف لأن كون الإِخبار عنهم مقيدًا بهذه الحال أشد من إظهار عجيب حالهم إذ شأن العمل الدائم أن يسلم منه عامله. اهـ.